أسباب انعقاد مجمع أورشليم والتوصيات النهائية
دخل اليهود للمسيحية ومعهم ميراث عريق من الطقوس اليهودية والناموس بوصاياه التي لا تنتهي من جهة الطاهر والنجس ومعاملة الأمم كأنجاس. والآن دخل الأمم إلى الإيمان.. فكيف تتعامل الكنيسة معهم؟!
كان هناك خطر من أن تنشأ كنيستان منفصلتان. كنيسة لليهود المتنصرين المتعصبين، وكنيسة للأمم المؤمنين. وبهذا تكون كنيسة اليهود ضيقة على نفسها مقفولة بلا محبة للعالم فتكون نهايتها الضياع. وتكون كنيسة الأمم بلا أصل ولا عُمق الناموس والتاريخ فتدخل في متاهات الفلسفة والنظريات مثل الغنوسيين. وكان رأى اليهود المتعصبين ضرورة ختان من يدخل للإيمان كما كانوا يفعلون مع من يدخل للإيمان اليهودي (خر 48:12). وعلى أن يحفظوا الناموس، فهم لم يكونوا قد فهموا بعد أن العهد الجديد يلغى هذه الطقوس الناموسية وأن العماد حلَّ محل الختان، والفداء بالصليب حل مكان الذبائح وتطهير القلب مكان تطهير اليدين والرجلين. فالعماد هو خلع الإنسان العتيق بجملته وليس مجرد قطع غرلة، وذلك تمهيدًا للبس الإنسان الجديد الذي سيرث ملكوت السموات وليس ميراث الأرضيات. وكان أول من تلقى درسًا من الله بأنه لا يوجد إنسان نجس كان بطرس في حادثة كرنيليوس ولذلك لم يطلب بطرس ختان كرنيليوس فبطرس اعتبر أن الإيمان طهرَّ قلب كرنيليوس.
وكان مركز التعصب لفكرة الختان هم من اليهودية كما نرى في (أع 1:15) وهؤلاء كانوا يندسون وسط المسيحيين ويثيروا المشاكل الخاصة بالختان كشرط للخلاص. حتى أن بطرس نفسه خاف من هؤلاء ومنع نفسه عن الأكل مع الأمم، وكان هذا معناه عدم التعامل بين الفريقين. ولكن بولس واجهه بشدة (غل 11:2، 12). ولنعلم أن اليهود كانوا يعتبرون الأمم كلابًا أنجاس والمشكلة التي تواجهها الكنيسة وبسببها عُقد هذا المجمع أن اليهود المتنصرين ما زالوا يريدون شق الكنيسة إلى مؤمنين وأمم.
وهنا نرى في هذا المجمع أن بطرس قاوم اتجاه اليهود المتنصرين، وهو مؤكد كان يتذكر ما حدث في إنطاكية من مواجهة بولس الرسول لهُ، وأعلن بطرس هنا قبوله التام للأمم، وانتهت بهذا تمامًا المشكلة التي ثارت بينه وبين بولس من سنوات (غل 11:2، 12).
🟤لماذا اُختيرت أورشليم لانعقاد مجمع الرسل؟
1 -غالبا ما كان المسيحيون في ذلك الحين يتطلعون إلى أورشليم كمصدر سلطة كنسية، حيث هناك تحققت أحداث الخلاص، ومنها انطلقت بذار الخدمة والكرازة إلى كل العالم. تُحسب الكنيسة في أورشليم الكنيسة الأم حتى بالنسبة للمسيحيين الذين من أصل أممي.
2 - كانت أورشليم تضم أغلب الرسل والمسيحيين أصحاب الخبرة، وربما كثير من الرسل كانوا يقومون بالكرازة ويعودون إلى أورشليم كمركز لكل الكنيسة. لذا فهي أفضل موقع لأخذ قرار فيما لم يستقر الأمر فيه بعد، حتى تنتهي كل المنازعات الخاصة بموقف الأمم المتنصرين.
3 - كان أغلب المؤمنين من أصل يهودي، لهذا فمن الأفضل صدور القرارات هناك حتى لا يأخذوا موقف المعارضة إن صدرت قرارات في كنيسة وسط الأمم.
4 - كان بعض المسيحيين الذين من أصل يهودي يحملون نوعًا من الضيق بسبب انفتاح الخدمة على الأمم، فكان لزامًا أن يتحققوا من فرح الرسل ككل بعمل الله وسط الأمم.
تفاصيل انعقاد مجمع اورشليم في الاصحاح الخامس عشر من سفر اعمال الرسل🟤دعوة للتهود في أنطاكية
وَٱنْحَدَرَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ، وَجَعَلُوا يُعَلِّمُونَ ٱلْإِخْوَةَ أَنَّهُ: «إِنْ لَمْ تَخْتَتِنُوا حَسَبَ عَادَةِ مُوسَى، لَا يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَخْلُصُوا». ( اعمال الرسل 15 : 1 )
منذ بداية انطلاق الكنيسة والعدو يحاربها من الخارج كما من الداخل. في الخارج اضطهادات، وفي الداخل يبث روح الانشقاق والانحراف عن الحق.
دخول الأمم إلى الإيمان المسيحي بأعداد كبيرة في بلاد كثيرة أثار حتى المسيحيين الذين من أصل يهودي، فبعدما كان اليهود يمثلون الغالبية العظمى كأعضاء في الكنيسة، صاروا قلة أمام الأمم الداخلين إلى الإيمان، صار هذا يمثل خطرًا في نظرهم من جهة حفظ الناموس. صارت هناك معارضة قوية من اليهود المتنصرين ضد الداخلين إلى الإيمان من الأمم، وإذ لم يكن ممكنًا وقف هذا التيار الإلهي دخلوا في منازعات بالتزام الأمم أن يتهودوا أولًا، أي يختتنوا حسب عادة موسى، ويحفظوا الناموس حرفيًا (أع 15: 1).
هؤلاء المتعصبون للناموس في حرفيته حتى بعد الإيمان المسيحي كانوا يمثلون جبهة قوية مقاومة للرسول بولس بكونه رسول الأمم الذي يطلب تحرير الأمم من حرفية الناموس. بقيت هذه الجبهة إلى آخر لحظات عمره، ففي آخر رحلة للرسول قال له الرسل: "أنت ترى أيها الأخ كم يوجد ربوة (عشرة آلاف) من اليهود الذين آمنوا وهم جميعًا غيورون للناموس" (أع 21: 20).
والعجيب أن القديس بطرس إذ دعاه الروح القدس للكرازة في بيت كرنيليوس الأممي لم يطالبه بالختان بل حلّ الروح القدس عليه هو ومن معه ونالوا العماد. لكن خشية غضب اليهود المتنصرين في أورشليم إذ كان يأكل مع الأمم وسمع أن قومًا قادمون من أورشليم كان يؤخر ويفرز خائفًا من الذين هم من الختان (غل 2: 12).
امتناع القديس بطرس من الأكل على مائدة الأمم أمام الذين من أهل الختان بمثابة اعتراف عملي بعدم أهليتهم لمعاشرة اليهود المتنصرين ما لم يختتنوا ويقبلوا حفظ الناموس في حرفيته، وإن كان الرسول لم يصرح بهذا لأنه هو نفسه كان يأكل معهم خفية. انتشر هذا الفكر في بلاد كثيرة خاصة غلاطية، بل وبلغ حتى روما فكادت الكنيسة تنقسم إلى كنيسة الأمم وكنيسة الختان، وعالج القديس بولس ذلك في رسالته إلى أهل رومية. وأيضًا هذا الفكر كان أحد العوامل في ظهور انقسامات في كنيسة كورنثوس حتى ادعى البعض أنهم لبولس وآخرون لصفا.
هذا الصراع ليس بجديدٍ، لكنه كان قائمًا بين اليهود قبل المسيحية. لاحظ Dr. Whitbyما ورد في المؤرخ يوسابيوس(668) انه عندما اعتنق ايزاتس Izates ابن هيلين لملكة أديابيين Adiabene اليهودية أعلن حنانيا بأنه يمكن تحقيق ذلك دون حاجة إلى الاختتان، أما اليعازر فحسب بقاءه أغرل شرًا عظيمًا.
يروي يوسيفوس في تاريخ حياته أن اثنين من الشخصيات البارزة بين الأمم هربا إليه، فكان اليهود الغيورون يحثانهما على ضرورة الختان، بينما يوسيفوس نصحهم أن يكفوا عن إصرارهم على هذا. وهكذا كان الأمر عبر الأجيال بين اليهود المتعصبين واليهود المعتدلين.
انتقل هذا النزاع مع اليهود حتى بعد قبولهم الإيمان المسيحي، ويعلل المتعصبون تمسكهم بالختان الطقوس الموسوية بالآتي:
1-أنها فرائض إلهية لا يمكن تغييرها.
2-أن السيد المسيح جاء ليكمل الناموس لا لينقضه.
هؤلاء يظنون أنه لا يمكن التمتع بالخلاص بدون تنفيذ الناموس حرفيًا، خاصة الختان وحفظ السبت والأعياد اليهودية وشرائع التطهيرات. بدونها مصير الإنسان هو الهلاك الأبدي في جهنم. أما المعتدلون فلا ينكرون هاتين الحقيقيتين، لكنهم يرون أنهما لا يتعارضان مع تحقيق الختان الروحي للذي للحواس، وممارسة الطقوس بفكرٍ روحيٍ بنَّاء، لا حرفي قاتل. هؤلاء يرون أن غاية الناموس هو أن يقودنا إلى ربنا يسوع المسيح الذي يبرر المؤمنين به. فالعودة إلى الناموس حرفيًا هو نكوص وانحراف عن غاية الناموس ذاته.
🟤صعود بولس وبرنابا إلى أورشليم
2 فَلَمَّا حَصَلَ لِبُولُسَ وَبَرْنَابَا مُنَازَعَةٌ وَمُبَاحَثَةٌ لَيْسَتْ بِقَلِيلَةٍ مَعَهُمْ، رَتَّبُوا أَنْ يَصْعَدَ بُولُسُ وَبَرْنَابَا وَأُنَاسٌ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى الرُّسُلِ وَالْمَشَايخِ إِلَى أُورُشَلِيمَ مِنْ أَجْلِ هذِهِ الْمَسْأَلَةِ. 3 فَهؤُلاَءِ بَعْدَ مَا شَيَّعَتْهُمُ الْكَنِيسَةُ اجْتَازُوا فِي فِينِيقِيَةَ وَالسَّامِرَةِ يُخْبِرُونَهُمْ بِرُجُوعِ الأُمَمِ، وَكَانُوا يُسَبِّبُونَ سُرُورًا عَظِيمًا لِجَمِيعِ الإِخْوَةِ. 4 وَلَمَّا حَضَرُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَبِلَتْهُمُ الْكَنِيسَةُ وَالرُّسُلُ وَالْمَشَايخُ، فَأَخْبَرُوهُمْ بِكُلِّ مَا صَنَعَ اللهُ مَعَهُمْ. 5 وَلكِنْ قَامَ أُنَاسٌ مِنَ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ آمَنُوا مِنْ مَذْهَبِ الْفَرِّيسِيِّينَ، وَقَالُوا: «إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَنُوا، وَيُوصَوْا بِأَنْ يَحْفَظُوا نَامُوسَ مُوسَى».
إذ حدثت منازعة بخصوص تهود الأمم قبل قبولهم الإيمان المسيحي، وكان هذا الموضوع حيويًا شعر الرسول بولس أن جهود الكنيسة تضيع في مباحثات ومنازعات عوض الانشغال بالكرازة وسط الأمم. تزايدت المنازعات وأخذ بعض اليهود موقفًا متشددًا مما سبب عثرة للداخلين حديثًا إلى الإيمان، وأخذ الموضوع اتجاهًا جماعيًا لذا صارت الحاجة ملحة إلى قرار مجمعي رسولي حازم.
صعد القديسان بولس وبرنابا إلى أورشليم وآخرون معهما لعقد مجمع رسولي، وفي طريقهم عبروا بفينيقية (لبنان) والسامرة، فكانوا يتحدثون عن عمل الله وسط الأمم، "وكانوا يسببون سرورًا عظيمًا لجميع الإخوة". كانت هذه المناطق عامرة بالمؤمنين اليهود غير المتعصبين، يفرحون بخلاص الأمم وقبولهم للإيمان.
كان القديس بولس ومن معه متهللين بالروح من أجل عمل الله الفائق وخلاص الكثيرين، لهذا ففي طريقهم إلى أورشليم أرادوا أن يشركوا الكنائس في الطريق فرحهم الروحي. فالمسيحي مصدر فرح لكل من هم حوله، يقدم دائمًا الأخبار السارة المفرحة، ليختبر المؤمنون عربون السماء.
قبلت الكنيسة في أورشليم هذا الوفد برضى واستمع الكل لعمل الله وسط الأمم. في وسط هذا الجو الرائع من الحب والصداقة تحدث القديسان بولس وبرنابا ومن معهما عن عمل الله معهم. لم يستعرضوا مجهوداتهم، ولا تحدثوا عن أنفسهم، وعن حكمتهم وإمكانياتهم، بل كان كل الحديث حول نعمة الله الفائقة.
🟤قدم المجمع أربع توصيات تمس الحياة السلوكية التي يلتزم بها الأممي الداخل الإيمان وهي:
1 - الامتناع عن نجاسات الأصنام مثل أكل اللحوم وشرب الخمر المقدمة ذبائح للأوثان، فهي نجسة في نظر اليهودي. كان أكل هذه اللحوم يعتبر نوعًا من الشركة في العبادة الوثنية. لهذا كان اليهود يرفضونها تمامًا. هذا لا يعني أن هذه اللحوم في ذاتها نجسة، لكن من أجل نية الوثنيين أنها جزء من العبادة، ومن أجل نظرة اليهود إليها يمتنع المؤمن عن أكلها حتى وإن كان ضميره قويًا، متطلعًا إلى أن كل الخليقة طاهرة. فمن أجل محبته لأخيه صاحب الضمير الضعيف يرفض هذه الأطعمة متى علم أنها كانت مُقدمة للأوثان. وقد عالج الرسول هذه النقطة في شيء من التوسع (1 كو 8: 1؛ رو 14).
2 - الامتناع عن الزنا، فقد عُرف كثير من الوثنيين بالإباحية الخلقية، كأن تمارس الكاهنات الزنا استرضاء للإله، ولجمع مال لحساب هيكل الوثن. وممارسة الزنا كنوع من العبادة في الأعياد الرسمية للآلهة. كانت هذه الرذيلة شائعة بين الأمم على مستوى العالم، تمارس دون خجل أو حياء، إذ لم يكن يوجد أي قانون بين الوثنيين يمنعها. لذلك كان لا بُد للمسيحية أن تأخذ موقفًا واضحًا وصريحًا لمقاومتها.
3 - الامتناع عن أكل المخنوق من الحيوانات والطيور، إذ تحسب كجثة ميتة رميمة نجسة (لا 17: 10؛ تك 9: 4).
4 - الامتناع عن شرب الدم، وهي تكملة للوصية السابقة، ذلك لأنه يحسب أن الدم هو الحياة، فيه النفس (لا 17: 11). هذا وكان من عادة بعض الوثنيين حين ينتقمون من شخص يقتلونه ويشربون دمه. كان شرب الدم شائعًا بين الأمم، يشربونه أثناء تقديم الذبائح وفي إقامة عهود وفي الاحتفالات .