recent
الاخبار

التعليم عن الثالوث بحسب فكر الاباء ؟

 التعليم عن الثالوث

عقيدة الثالوث القدوس المساوى فى الجوهر

 نحاول أولاً إيضاح أهمية عقيدة الثالوث القدوس لإيماننا المسيحي وحياتنا وخلاصنا وكيف علّم آباء الكنيسة ـ وبالأكثر أثناسيوس الرسول ـ عنها لأن كتاباته العقيدية كانت هى مصدر أساسي لتعاليم القديس كيرلس عن هذه العقيدة الخلاصية، بل أن الأخير قد اتخذ منهج أثناسيوس في فهم وشرح عقيدة الثالوث ـ كما سنرى بالتفصيل فيما بعد ـ منهجًا له.


إن عقيدة الثالوث القدوس، أى الآب والابن والروح القدس، الأقانيم الثلاثة المتساوون في الجوهر وذوو القداسة الكليّة، هى الأساس الراسخ لكل فكر ديني وتقوي ولكل الحياة والخبرة الروحية، فالنفس المسيحية في بحثها عن الله هى في الواقع تبحث وتفتش عن الثالوث

 وعقيدة الثالوث القدوس ليست من اختراع بشر بل هى حقيقة أعلنها الله نفسه لأجل خلاص الإنسان أو كما يدعوها القديس غريغوريوس النيسي بـ “العقيدة الخلاصية” لأنها عطية الله لنا لأجل خلاصنا. وبالتالي فعقيدة الثالوث ـ مثلها مثل كل العقائد الإيمانية ـ ليست هى نتيجة لفكر بشري بل أن جذورها هى في الاعلان الإلهي، ومنه تستمد كل تعاليمها وبه ترتبط كل الإرتباط. وبحسب التعليم الأرثوذكسي فإنه لا توجد عقيدة غير نابعة من ذلك الاعلان الإلهي الذي تم في المسيح يسوع ” فالله لم يراه أحد قط، الابن الوحيد الذي في حضنه هو الذي خبر والابن ( كلمة الله ) عندما أُستعلن كشف لنا سر الثالوث .

فهو الذي “ أظهر لنا نور الآب وأعطانا شركةالروح  القدس الحقيقية“ لهذا فإن الإنسان لا يستطيع بقوته أن يكتشف الحقيقة، فالعقل المحدود لا يستطيع أن يدرك الحقيقة التي هى فوق كل إدراك. وبالتالي فعقيدة الثالوث ليست هى نتيجة أفكار بشرّية وليست لها علاقة بالمعرفة والحكمة البشرّية، والمعرفة البشرّية بالتالي ليست هى مصدر عقيدة الثالوث كما أنها لا يمكن أن تكون حكمًا عليها، كما أن لا التاريخ ولا الخبرة الدينية يمكن أن تفعل هذا. فعقيدة الثالوث ليست هى ثمرة تجارب أو خبرات تاريخية ودينية. فالإنسان لا يستطيع أن يصل إلى هذه العقيدة بل هى أُعطيت للإنسان. فأصلها أبعد من قدرات الإنسان إذ هى واقع آخر يفوق واقعه الحالي وتختلف عنه في النوع.

فالمسيح الإله الحيّ هو الذي أعلن وكشف لنا عن هذه الحقيقة. وهدف كل عقيدة هى الحياة في المسيح. ولهذا فهذه العقيدة أو بمعنى آخر هذه الحقيقة قد أُعطيت للإنسان لكى تقوده إلى علاقة مع الله مثلث الأقانيم وشركة في حياة الثالوث القدوس كما يقول ق. يوحنا “ أما شركتنا نحن فهى مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح في الروح القدس.

ولقد أدرك آباء الكنيسة تلك الحقيقة وعاشوها، لهذا نجد مثلاً أن القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات يصف عقيدة الثالوث القدوس بأنها “رأس الإيمان” ويشدّد القديس أثناسيوس أيضًا على أن الكنيسة قد تأسست على الإيمان بهذه العقيدة والتي بدونها لا يمكن أن يكون المرء مسيحيًا فيقول    “دعونا ننظر إلى تقليد الكنيسة وتعليمها وإيمانها الذي هو منذ البداية والذي أعطاه الرب وكرز به الرسل وحفظه الآباء وعلى هذا الأساس تأسست الكنيسة ومَن يسقط منه فلن يكون مسيحيًا ولا ينبغي أن يدعى كذلك فيما بعد. وإذن يوجد ثالوث قدوس وكامل يُعتّرف بلاهوته في الآب والابن والروح القدس”

لقد أوصى الرب القائم من بين الأموات، تلاميذه عندما التقاهم في الجليل بعد القيامة قائلاً: ” اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس“، وهذا الإيمان بالثالوث هو الذي أعطاه الرب وكرز به الرسل وحفظه الآباء كما قال ق. أثناسيوس، غير أن حقيقة الثالوث لم تبدأ بتجسد الابن الوحيد، بل هى حقيقة أبدية، إذ نجد أن في العهد القديم نصوصًا استشف منها الآباء ما يوضح حقيقة الثالوث مثل قول الرب في صيغة الجمع ” لنخلق الإنسان على صورتنا كشبهنا“ غير أنه بتجسد الابن الوحيد استُعلنت طبيعة الله وحقيقته، وكُشف لنا سر الثالوث القدوس كاملاً.

 وبالرغم من أن الرسل قد آمنوا ثم كرزوا بما آمنوا به وعلّموا وتلمذوا كثيرين على هذه العقيدة الخلاصية إلاّ أن عقيدة الثالوث قد تعرّضت على مر العصور الأولى للمسيحية لهجوم كثير من الهراطقة الذين علّموا بأفكار متعددة وخاطئة، فمنهم من اتهم المسيحيين بأنهم يعبدون ثلاثة آلهة مثلهم مثل الوثنيين الذين كانوا يؤمنون بتعدد الآلهة، ومنهم من أنكر عليهم إيمانهم بإلوهية الابن المتجسد، فأنكروا علاقته الجوهرية بالآب وغيرهم من الذين بعدما أنكروا إلوهية الابن حاسبين إياه من بين المخلوقات، تحول هجومهم ضد الأقنوم الثالث فأنكروا إلوهية الروح القدس.

وهذه التعاليم الخاطئة سواء كانت ضد إلوهية الابن أو إلوهية الروح القدس، هى في الواقع موجهة ضد عقيدة الثالوث القدوس لأن إنكار إلوهية أى من الأقانيم الثلاثة هو إنكار لعقيدة الثالوث كلها حتى وإن كانت الهرطقات قد وجَهَت سهامها إلى أقنومي الابن والروح القدس فقط.

هذا ولقد وصلت هذه التعاليم الخاطئة إلى ذروتها بظهور بدعة آريوس الذي أنكر إلوهية الابن، الأمر الذي واجهته الكنيسة بكل حزم وشدة متمثلة في موقف ق. أثناسيوس وقرارات مجمع نيقية الأول 325م والذي حدّد موقف الكنيسة وإيمانها بإلوهية الابن المتجسد ومساواته في الجوهر لله الآب. وأيضًا بظهور بدعة مقدونيوس التي أنكرت إلوهية الروح القدس فجاء انعقاد المجمع المسكوني الثاني في القسطنطينية 381م ليعبّر عن إيمان الكنيسة الجامعة بربوبية الروح القدس المحيي والمسجود له مع الآب والابن.. وهكذا استطاع الآباء أن يحدّدوا صياغة عقيدة الثالوث ويردوا على التعاليم الخاطئة التي علّم بها الهراطقة سواء عن طريق الصياغة التي أقروها في مجمعي نيقية والقسطنطينية أو في كتاباتهم الدفاعية التي سجلوا فيها تعاليمهم عن إلوهية الابن وولادته الأزلية من الآب ومساواته في الجوهر للآب والروح القدس، أو تلك التي سجلوا فيها تعاليمهم عن إلوهية الروح القدس وانبثاقه من الآب وإرساله بالابن وأنه من ذات جوهر الآب والابن.

ولقد كان القديس أثناسيوس الرسولي من بين هؤلاء الآباء الذين دافعوا عن عقيدة الثالوث. غير أن دفاعه عن إلوهية أقانيم الثالوث قد تميّز ببعده الخلاصي والكياني، فمن الواضح تمامًا أن مدخل ق. أثناسيوس إلى فهم وشرح عقيدة الثالوث القدوس كان يقوم على أساس أعمال الله الخلاصية والإعلانية التي تحققت في ظهور ابنه الوحيد بالجسد. ومن خلال مفهوم   ” هوموأوسيوس ÐmooÚsioj ” كان القديس أثناسيوس يصل إلى العلاقات الأزلية والتمايز داخل جوهر اللاهوت الواحد

لقد كان شغله الشاغل ـ وهو يرد على الآريوسيين الذين أنكروا إلوهية الابن المتجسد ـ هو أن يحافظ على ما أتمه المسيح من أجلنا ومن أجل خلاصنا ـ فلو لم يكن المسيح هو الله بالحقيقة كما أن الآب هو الله بالحقيقة (بسبب وحدتهما في الجوهر) لما كان في الإمكان أن يعرّفنا بالآب أو أن يفدى البشرية من الموت والفساد ولو لم يكن الابن هو الإله الذي تجسد لما كان ممكنًا ـ عندما اتحد بطبيعتنا ـ أن يعطينا الحياة الإلهية أى حياة الثالوث.

وأيضًا كان هذا البُعد الخلاصي لفهم وشرح عقيدة الثالوث القدوس واضحًا جدًا في رسائل ق. أثناسيوس عن الروح القدس والتي كتبها بين عامي 356، 361 بناء على طلب من صديقه سرابيون أسقف تيمي من أجل الرد على رفض أنصاف الآريوسيين لألوهية الروح القدس على أساس بدعة تقول إنه من “جوهر مختلف šteroÚsioj” عن الآب والابن. ولأن هذا الانحراف كان يشكّل تهديدًا واضحًا لعقيدة الثالوث القدوس وبالطبع لسر المعمودية المقدسة ـ وذلك بسبب تمزيقه لوحدة الله ـ فقد واجهه ق. أثناسيوس بنفس البراهين الخرستولوجية والخلاصية والكيانية التي استخدمها في جداله الطويل مع الآريوسيين وقد ظل على تأكيده القاطع بأنه من خلال عقيدة إلوهية الروح القدس ووحدانيته في ذات الجوهر (مع الآب والابن) يكتمل فهمنا للثالوث القدوس في فكر الكنيسة وعبادتها

فكما أننا نأخذ معرفتنا للآب من معرفتنا للابن فهكذا تمامًا ينبغي أيضًا أن نأخذ معرفتنا للروح القدس من معرفتنا للابن، أى من العلاقات الداخلية التي بين الآب والابن والروح القدس في جوهر الثالوث الواحد غير المنقسم وكان ق. أثناسيوس قد أقام حجته الدفاعية على أساس رؤية خلاصية، من منطلق أننا لو لم نكن في الروح القدس نُعطى علاقة مع الله، لما كان للإنجيل أى مضمون حقيقي وهو بالضبط ما كان سيحدث لو لم يكن الابن واحدًا في ذات الجوهر والقدرة مع الله الآب، فكل شئ إذًا يرتبط بحقيقة الوحدانية في ذات الجوهر التى للروح القدس والآب والابن. وبما أن الابن هو من جوهر الآب وخاص بجوهره، فكذلك روح الله الذي هو واحد مع الابن (وخاص به) لابد أن يكون معه (أى مع الابن) من جوهر الآب وواحد معه في ذات الجوهر

 تعاليم القديس كيرلس عن عقيدة الثالوث:

ولقد اقتفى ق. كيرلس أثار مَن سبقوه من الآباء في محاولاتهم للدفاع عن عقيدة الثالوث. غير أنه تأثر تأثرًا كبيرًا بكتابات ق. أثناسيوس الرسولى وخصوصًا تلك التي دافع فيها عن إلوهية الابن مثل مقالاته ضد الآريوسيين، وأيضًا تلك التي دافع فيها عن إلوهية الروح القدس مثل رسائله إلى الأسقف سرابيون وذلك لأن ق. كيرلس كان على قناعة تامة بأن الدفاع عن إلوهية أحد أقانيم الثالوث هو دفاع عن عقيدة الثالوث القدوس كله.

ولما كانت مسألة إلوهية أقنوم الآب غير واردة في محاورات المعارضين فإنه لم ينشغل بها في هذا الحوار بل كان كل تركيزه على إيضاح إلوهية الابن والروح القدس

 وفي محاولته هذه اقتفى أيضًا آثار ق. أثناسيوس، مشددًا على الآتي:

1ـ أن إلوهية الابن والروح القدس هى بسبب أنهما واحد فى ذات الجوهر مع الآب ÐmooÚsioj فيقول: “إن الابن قد وُلِدَ من جوهر الله الآب وأنه إله حق من إله حق وأنه لم يولد من طبيعة غريبة ومختلفة وأن له كل ما للآب حسب الجوهر عدا كونه أبًا وإذ نحصى الروح القدس مع الآب والابن في الألوهة الواحدة فإننا هكذا نسجد لثالوث واحد مساوٍ في الجوهر الإلهى”

2 ـ  الابن لم يأتِ إلاّ من الآب إذ ولد من جوهر الله الآب “

3 ـ الابن بطبيعته مختلف عن كل الآلهة المخلوقة ولا يحسب ضمن المخلوقات إذ هو كائن دائمًا مع أبيه وهو يُدرك دائمًا مع الذي ولده في طبيعة إلهية واحدة”

4 ـ إننا قد اعتمدنا باسم الآب والابن والروح القدس وبالطبع أننا لا نؤمن بثلاثة آلهة لكن بألوهة واحدة ممجّدة في الثالوث الأقدس”

 وفي موضع آخر يرّد على الذين يتساءلون عن كيفية أن يكون الله واحد بينما نقول إن لكل من الآب والابن أقنومه الخاص، فيقول ” إن ما يساعدنا في فهم هذا الأمر هو أن نأخذ في الاعتبار حقيقة وحدة الجوهر تلك الوحدة التي بها يكون للأقنومين جوهر واحد مع حفظ كل ما يخص كل منهما كأقنوم”

شاهد هذا الفيديو للشرح

 

author-img
موقع الفكر المسيحى

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent