هـــــــل حـــــقـاً مــــــات " الله " عــــــلـي الـصـلـيـب ؟!!!
إن النقطة المفصلية التي يجب أن تكون نُصب أعيننا ونحن نحاول الأجابة علي هذا السؤال بالتفصيل، هي أن موت الأنسان لا يعني الفناء ولا يعني التلاشي من الوجود ولا يعني الذهاب إلي العدم، ولكن ما يعنيه موت الأنسان هو أنفصال روحه ونفسه عن جسده، فعندما نقول أن فلان قد مات فهذا يعني أن روحه ونفسه اللتين تشكلان كيانه الروحي قد أنفصلتا عن جسده المادي وأصبحتا موجودتين إما في دار النعيم وإما في دار العذاب، وفي الوقت الذي نضع فيه جسده المادي في التراب يبقي كيانه الروحي موجوداً ومعبراً عن شخصه.
![]() |
موت المسيح |
إن هذه الحقيقة واضحة وضوح الشمس في الكتاب المقدس من خلال مقاطع عديدة أهمها قصة لعازر والغني (لوقا 16 : 19 – 31). فالقديس كان موجوداً بعد الموت، والخاطيء أيضاً كان موجوداً بعد الموت، ولكن الأول في دار النعيم والأخر في دار العذاب.
ثم يتعين علينا أدراك أن أمكانية أنفصال الروح والنفس عن الجسد، وهي الحالة التي تسمي الموت، حدثت نتيجة عصيان الأنسان لله وأنفصاله عنه أدبياً، بمعني أن الحالة التي خُلق عليها أدم في البداية قبل أن يُخطيء لم يكن ممكناً فيها فصل الروح والنفس عن الجسد فقد كان أدم غير قابل للموت، وهي الحالة التي سيُحضر عليها المؤمنين في النهاية في الجسد الممجد حيث سيكون أبناء القيامة "لا يستطيعون أن يموتوا أيضاً" (لوقا 20: 36)
إذاً الموت بمفهومه الكامل هو أنفصال عن الله أدبياً بعصيانه، يؤدي إلي أختلال في الكيان البشري بحيث تصبح فيه القابلية لأنفصال الروح والنفس عن الجسد، كما يؤدي الأنفصال الأدبي عن الله إلي أنفصال نهائي وأبدي عنه بالخلود في الجحيم.
كون الأنفصال عن الله هو السبب الأساسي لحالة الموت، فإنه من المنطقي أن يكون الله "وحده له عدم الموت" (1 تيموثاوس 6: 16) لأن الموت هو الأنفصال عنه، فهو مصدر الحياة ومنشأها، فكيف له أن يموت ؟!!
عند هذه النقطة ينبغي أن نعرف عن الله شيئاً أكثر يعلنه لنا الكتاب المقدس، وهو أن الله عز وجل ذات واحدة أو جوهر واحد، ولكنه يتعين في ثلاثة شخصيات، متمايزون عن بعضهم في الشخصية وفي الأدوار، ولكنهم متحدون إتحاد كامل، ومتساوون مع بعضهم تماماً، في حين أن كل شخص من الثلاثة يعبر عن الجوهر الواحد تعبيراً كاملاً.
ربما يكون أمراً عسيراً علي عقولنا قبول ذلك الوصف عن الله إذا تخيلنا الله كياناً مادياً، ولكن إدراكنا أن "الله روح" (يوحنا 4: 24) يجعل الأمر مقبولاً كثيراً، فالأرواح غير مقيدة بالأبعاد الثلاثة التي تحكمنا في الجسد في حياتنا المادية، علاوة علي أن الله ليس أي روح بل إنه عز وجل روح غير محدودة وليس لها مثيل، وغير محدوديته هذه تجعله فوق مستوي عقولنا فيتعذر علينا أن ندركه أدراكاً تاماً.
ولكي نفهم حتمية التعدد المصاحب للذات الألهية الواحدة، يُعلن الكتاب المقدس "إن الله نور وليس فيه ظلمة البتة." (1 يوحنا 1: 5)، كما يُعلن أيضاً أن "الله محبة." (1 يوحنا 4: 8)، فالنور هو طبيعته المحضة بينما المحبة هي فيض هذه الطبيعة، والكمال الإلهي في الصفات والأفعال ينشأ عن هاتين الطبيعتين.
إن الله مستقل بذاته عن كل خلائقه وهو قادر علي أن يكون ذاته دون الأحتياج لكل ما عداه، فالله ليس محتاجاً لأحد لكي يمارس طبيعته، فهو عز وجل قائم بذاته، وعلي ذلك فهو قادر علي ممارسة المحبة التي هي طبيعته دون الأحتياج لأي كيان خارجاً عنه، ولكن المحبة علاقة، والعلاقة لا تقوم إلا بين كثرة، وهذا ما يحتم التعدد المصاحب للجوهر الألهي الواحد.
إن كل المفكرين الذين بحثوا في الذات الألهية خلصوا إلي أمرين لا ثالث لهما، إما أنهم أمنوا بالتعدد المصاحب للذات الألهية الواحدة، إما أنهم جردوا الله من العلاقات مع خلائقه تنزيهاً له عن التعدد، وما يهمني هنا هو الفريق الأول الذي في شرحه لذات الله أورد مفردات التعدد بدراية أو بغير دراية بالرغم من خلفيته الدينية، وأذكر منهم علي سبيل المثال، ابن سينا، الذي قال "واجب الوجود بذاته عقل وعاقل ومعقول، وأنه في ذاته عاشق ومعشوق ولذيذ وملتذ" (كتاب النجاة ص140 – 142) وقال الفيلسوف محيي الدين العربي "إن الله هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وعين ما ظهر وعين ما بطن فالأمر حيرة في حيرة. واحد في كثرة، وكثرة مردها إلى واحد" (فصوص الحكم ص31 ).
إذاً الله كما يُعلن الكتاب المقدس، ذات واحدة، أو جوهر واحد، أو لاهوت واحد، يتعين في ثلاثة اشخاص، الأب والأبن والروح القدس، متمايزون ومتحدون ومتساوون، وكل شخص يعبر تعبيراً كاملاً عن الذات الواحدة، وقد شهد الأستاذ عباس محمود العقاد لأعتقاد المسيحييـن فـي ذات الله قائلاً "إن الأقانيم جوهر واحد. وإن "الكلمة " و"الآب" وجود واحد، وإنك حين تقول "الآب" لا تدل عن ذات منفصلة عن "الابن" لأنه لا انفصال ولا تركيب في الذات الإلهية". (كتاب الله صفحة 159)
عند التجسد، فإن اللاهوت الألهي متعيناً في شخص الأبن، اتحد اتحاد كامل بكيان بشري كامل، أو ما نسميه الناسوت، وهو جسد مادي ونفس بشرية وروح بشرية، وذلك دون أي أمتزاج أو أختلاط بين اللاهوت والناسوت، فمثل أتحاد الروح البشرية بالجسد مع أحتفاظ كلٍ منهما بخصائصه، كذلك أتحد اللاهوت، متعيناً في شخص الأبن، بالناسوت في شخص يسوع الذي أستمد ذاتيته أو هويته من اللاهوت الألهي المتحد بناسوته، فهو اللاهوت ظاهراً في جسد.
نظراً لأتحاد اللاهوت بالناسوت دون أمتزاج في شخص الرب يسوع المسيح، فإن أعماله واقواله بحسب لاهوته متمايزة عن أعماله واقواله بحسب ناسوته، فبينما كان جنين في رحم العذراء فقد أنشأ التهليل والأبتهاج في قلب المعمدان الذي كان بدوره في رحم أليصابات (لوقا 1: 41) ، وعندما كان نائماً في مؤخرة السفينة وقف بعدها بلحظات منتهراً الريح والبحر بالسكوت (مرقس 4: 39)، وبينما هو معلقاً علي الصليب أعطي وعداً للص التائب بالذهاب للفردوس (لوقا 23: 43)!!!
بالرغم أن الجسد المادي حل فيه كل ملء اللاهوت إلا أن اللاهوت لطبيعته الروحية والغير محدودة لم يكن متحيزاً بحدود الجسد المادي، فشخص ربنا يسوع المسيح كان بالجسد علي الأرض وفي نفس الوقت يملأ الوجود، ففي الوقت الذي كان بالجسد علي الأرض تكلم عن نفسه قائلاً "ابن الإنسان الذي هو في السماء." (يوحنا 3: 13)
إن فكرة تجسد الأله أو تصوره هي قريبة جداً للذهن البشري الطبيعي، ففي الأحاديث الأسلامية، "رأيت ربي جعداً [شعره أكرت] أمرد [فارع الطول] عليه حلة”خضراء" (كتاب الأسماء والصفات لأبي بكر البيهقي ج 2 ص 261) وفي القرآن "للذين احسنوا الحسني وزيادة" (يونس 26) ويعلق علي هذا القول في الأحاديث "الحسني الجنة والزيادة النظر إلي وجه الله" (نور علي الدرب – لأبن باز 155/1)
وفي القرآن، “الرحمن علي العرش استوي” (سورة طه 5). وفي صحيح البخاري 3398 يقول "إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فما أدري أفاق قبلي أم جوزي”.
فإن كان العرش له قوائم محدودة بدليل أن موسى استطاع أن يمسك بأحد قوائم العرش. فهل العرش حدَّ وحيز الله؟ وهل الله الجالس على العرش غير موجود خارج العرش؟! الله موجود على العرش بطريقة معلنة، وموجود خارج العرش بطريقة غير مرئية.
علي الصليب، وتحديداً في ثلاث ساعات الظلمة، كان يسوع المسيح قد أخذ مكانه بالفعل كنائب عن البشر في تحمل قصاص خطاياهم، فما كان من الأب بأعتباره الله صاحب المشورات الأزلية إلا أنه "وضع عليه إثم جميعنا." (إشعياء 53: 6) فكل ما أقترفه البشر من خطايا وُضعت علي يسوع المسيح حتي صار جسده المادي نفسه بمثابة خطية !!!
أظهر الآب بأعتباره الله القدوس أستنكافه من الخطية فحجب وجهه عن يسوع المسيح الذي جُعل خطية لأجلنا، كما توقف الروح القدس عن أمداد روحه البشرية بالمعونة، وهذا ما جعل يسوع المسيح يصرخ بكيانه البشري "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟" (متى 27: 46)
مرة أخري الأب بأعتباره الله الديان العادل، دان الخطية في جسد يسوع المسيح، وحيث أغمضت الطبيعة عينها، فأظلمت الشمس، وبعيداً عن أعين بني البشر في ظلمة حالكة، قاسي المسيح الأهوال من يد الله الديان العادل جزاءاً عادلاً لخطايا كل العالم. فتحمل جرعة مركزة من الجحيم "لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية." (يوحنا 3: 15)
لم يكن أيٌ مما حدث فوق الصليب ليغير أي شيء في وضع اللاهوت الأزلي، ففي خضم موقعة الصليب ووسط ذروة ترك الأب بأعتباره الله، ليسوع المسيح، كان الأب في الأبن والأبن في الأب والروح القدس هو روح الأب وهو روح الأبن.
أما بالنسبة لشخص يسوع المسيح، فحتي ذلك الحين لم يكن شيئاً قد تغير، حيث اللاهوت متعيناً في شخص الأبن ومتحداً دون امتزاج بالروح والنفس البشريتين والجسد المادي الذي لولا أتحاد اللاهوت به لما كان ليتحمل وطأة ما قاساه في ثلاث ساعات الظلمة "من الضغطة ومن الدينونة" (إشعياء 53: 8)
عند الموت، أستودع المسيح روحه البشرية لدي الآب، فأستقرت مع النفس في الفردوس، بينما دُفن الجسد المادي في القبر، ومن جهة أخري ظل اللاهوت متعيناً في شخص الأبن متحداً دون امتزاج بالكيانات الناسوتية الثلاثة، الروح والنفس والجسد المادي الذي حفظه أتحاده باللاهوت من الفساد الذي يعتري الأجساد عند أنفصال الروح (مزامير 16: 10).
وهنا يجب أن نراجع النقطة المفصلية التي أشرنا لها في البداية، أن الموت لا يعني الفناء، ولا يعني التلاشي من الوجود، ولا يعني الذهاب إلي العدم، ولكن ما يعنيه الموت هو أنفصال الروح والنفس عن الجسد.
وعلي ذلك، فإن الذي مات علي الصليب كان هو الله، لأن شخص يسوع المسيح يستمد ذاتيته من أتحاد اللاهوت بناسوته. فهو اللاهوت ظاهراً في جسد. وعندما انفصلت روحه ونفسه البشريتين عن جسده كانت هذه حالة موت، ومن عاني من حالة الموت هذه هو الله الظاهر في جسد.
وفي نفس الوقت كان الله موجوداً كما هو موجود منذ الأزل وإلي الأبد لأن اللاهوت لم يعتريه أي تغيير من جراء أتحاده بالناسوت. وحتي في حالة الموت كان اللاهوت موجوداً كما كان قبل التجسد وكما كان منذ الأزل.
نعم الذي مات علي الصليب هو الله بكل ما تحمله الكلمة من معني، وفي نفس الوقت كان الله موجوداً أثناء حالة الموت التي أعترت شخص يسوع المسيح.
"فإن المسيح أيضا تألم مرة واحدة من أجل الخطايا، البار من أجل الأثمة، لكي يقربنا إلى الله، مماتا في الجسد ولكن محيى في الروح،" (1 بطرس 3: 18)